Friday, April 18, 2014

عزمي بشارة: المنفى ليس خياراً

عزمي بشارة: المنفى ليس خياراً...
عرب ٤٨
تاريخ النشر: 18/04/2014 - آخر تحديث: 10:00
- ألا تذكرون مقولة حزب الرجل الواحد عن التجمع؟! (ومع أني ما زلت أحظى بمكانة خاصة في التجمع، وحتى لدى الأجيال الشابة التي لا تعرفني عن قرب؛ إلا أنني بالطبع لا أتدخل في صنع القرار في التجمع)
 - "لا أعتقد أن الجبهة يمكن أن تندمج مع أحزاب مثل ميرتس أو العمل" 
 - "الحزب الذي اعتاد أن يكون وحده في الساحة صار يخوّن كل من تجرأ على أن ينظم نفسه دون استثناء"
- "أحيانا يبدو لي أنه بالنسبة للبعض السجن هو هدف لمن هم في الخارج، وبعد السجن يصبح إطلاق السراح هو الهدف. 
على كل حال المنفى في حالتي ليس خيارا بل ضرورة!!"
- "أولئك إخواني (الحراك الشبابي) فجئني بمثلهم... أقول أولئك بناتي وأبنائي فجئني بمثلهم. هؤلاء الشباب هم خير ما أنتجته الحركة الوطنية "
-  "عمر اسم عربي جميل أليس كذلك؟ وأنا رجل عربي، وابني كما يبدو يكبر ليكون كذلك"
- "المدينة التي أحب أن أسكن فيها هي حيفا. والقرية ترشيحا والجليل الأعلى عموما"

خص الدكتور عزمي بشارة صحيفة "المدينة" الحيفاوية مقابلة مطولة تحدث فيها عن أمور شتى بدءًا من الوضع العربي العام والتحول الديمقراطي إلى الحراك الشبابي في الداخل. وتأتي هذه المقابلة المطولة بعد شهور طويلة من محاولة بشارة عدم الادلاء بتصريحات مطولة وبعد شهور أطول لم يجر فيها مقابلات في صحيفة محلية في الداخل، ومن هنا تنبع أهمية هذا الحوار الصريح الذي يأتي أيضًا بمرور سبعة أعوام على خروجه للمنفى القسري. للتنويه: صحيفة  هي صحيفة مستقلة غير محزبة تصدر بنسختين، الأولى لحيفا والمنطقة والثانية ليافا ومنطقة المركز. في ما يلي نص المقابلة:

إذا شم رائحة وعبق الأرض فلا يقتصر الأمر على فلسطين بل على كل أرجاء العالم العربي، هكذا كان ولا يزال الدكتور عزمي بشارة، الذي لا يمكننا أن نختصر إنجازاته من خلال هذا اللقاء كون تلك عديدة وفي عدة مضامير.
طالما كان بشارة ريادياً في خطابه السياسي وكذلك في ممارساته السياسية وعمله البرلماني، وحتى في مواقفه القومية، ففي أعقاب الحرب العدوانية على لبنان في تموز ٢٠٠٦ كان من الأوائل الذين ذهبوا إلى الضاحية الجنوبية في بيروت للتضامن مع لبنان، وقرّب المسافات بين أشقاء فرقتهم النكبة ولمّ شملهم من خلال فتح الطريق لسوريا، لشخص حوّل "دولة كل مواطنيها" إلى مطلب شعبي لمعظم أبناء شعبنا على اختلاف انتماءاتهم، لشخص انتقد بشدة ما يجري في مصر قبل الثورة، ولا يزال يعلو صوته من أجل إحلال الديمقراطية في العالم العربي.
قد يختلف معه العديد منا على نهجه ومواقفه لكن هذا لم يقلل من احترامنا وتقديرنا لمجهوده الفكري والسياسي، وهذا الاختلاف لم يمنعه من الاستمرار في قول ما يفكر ويؤمن به أينما حل.
أجرى المقابلة: رشاد العمري وغالب كيوان
حدثنا عن الوساطة التي قمت بها بين فتح وحماس؟ وما هو هدفكم من ذلك؟ 
الحقيقة أني لم أقم بمثل هذه الوساطة. ولكني أؤيد الوحدة الوطنية ومستعد أن أفعل الكثير من أجلها. لقد اجتمعت قياداتهم (الفصائل الفلسطينية فتح وحماس) في مؤتمر عقدناه حول قضية فلسطين في نهاية العام الماضي. وعلاقتي ممتازة مع الجانبين، من دون أن تخلو من نقد لهما. ولكني لم أقم بوساطة. وليس لدي الوقت لإصدار البيانات وتكذيب كل ما ينشر في الصحف ومواقع الإنترنت حول هذه المواضيع.
ألا ترى أنه في ظل سياسة المفاوضات دون جدوى التي يقودها أبو مازن نحن بصدد انتفاضة ثالثة؟ وتعالي الأصوات المطالبة بإقالة أو تنحي محمود عباس؟
الظروف برأيي مهيأة لانتفاضة ثالثة. ولكن الجديد أن قوات الاحتلال تركت مهمة حفظ "الأمن الداخلي" للسلطة الفلسطينية. ولذلك يكمن الخطر في أنه إذا لم تسبق الانتفاضة وحدة وطنية في الموقف من الاحتلال، والاتفاق على عقم المفاوضات فسيكون الصدام مع أجهزة السلطة... وتتحول الانتفاضة إلى اقتتال داخلي. وبرأيي هذا هو الجديد الذي يؤجلها، لناحية فهم الناس بالحس السياسي الشعبي المباشر لهذه الحقيقة. وهذا هو معنى التغيير الذي حصل منذ الانتفاضة الثانية. الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال مسألة مصيرية.
بالنسبة للمطالبة باستقالة أبو مازن، فثمة من يطرح هذا بحسن نية ومن منطلقات وطنية نتيجة لموقف متعلق بفشل سياسة التفاوض المعروف سلفا. ولكن ثمة من يطرح ذلك لأن مصلحة إسرائيل وبعض الأنظمة العربية تقتضي تهديد رئيس السلطة الفلسطينية بابتزازه وبوجود بدائل جاهزة له إذا لم يوقّع.
تكملة للسؤال السابق ألا تعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية بالأساس؟ وعدم تدخل الدول العربية وتحويل القضية كأنها فلسطينية ومن ثم عربية منذ عهد السادات حتى يومنا هذا، أضعف قضيتنا وبناء على ذلك يجب العمل على تحويلها قضية عربية ومن ثم فلسطينية؟ 
هذا صحيح. وقد كتبت ذلك في مناسبات عدة، وحاولت أن أثبته بالحجج والأدلة. إذا كانت قضية فلسطين مسألة صراع مع الصهيونية فلا يمكن حسمها إلا عربيًا. الفلسطينيون يحافظون على هويتهم، ويمنعون تطبيع الاحتلال، ولا يتنازلون عن عدالة قضيتهم، ولكنهم يشكلون بذلك حالة مقاومة. هذه الحالة لا يمكنها أن تهزم الاحتلال وجها لوجه. هي الشرط الضروري لهزيمة الاحتلال، إنها شرط ضروري، ولكنه غير كاف من دون مواجهة عربية مع الاحتلال. وهذا لم يتوفر منذ العام 1973، وذلك لأسباب عديدة لا مجال الآن للخوض فيها.
ومن هنا نشأ خيارات مواجهة مختلفة متعلقة بالصراع مع الصهيونية بتبني نموذج الصراع مع البنية العنصرية وليس مع الكيان مباشرة، كما كان في حال نموذج جنوب أفريقيا، حيث اختارت حركة التحرر الوطني طريق الصراع مع بنية نظام الأبارتهايد وتقويضها من دون التنازل عن أي من وسائل المقاومة الملائمة لطبيعة الصراع والأهداف. وفي هذه الحالة الهدف هو استبدال نظام الأبارتهايد العنصري الاستيطاني بدولة ديمقراطية يتساوي فيها المواطنون، وتتساوى فيها الشعوب.
ونحن نقترب من مرحلة الحسم بين النموذجين. وما المفاوضات إلا محاولة لطرح بديل ثالث يبقي على الكيان والبنية في الوقت ذاته، وذلك بالفصل بين الشعبين بشروط مقبولة على إسرائيل، أي من دون أن تدفع إسرائيل ثمن ذلك بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة كافة بما فيها القدس. ولهذا تتعثر المفاوضات، فهي لا تقود إلى حل. 
لقد ساهم د.عزمي بشارة في طرح الفكرة القومية العربية من جديد بعد أن غفل عنها العرب منذ وفاة القائد العربي الخالد جمال عبد الناصر، إلى أي مدى نجد أن هنالك تنويريين وتجاوبا مع هذه الأفكار؟ حيث أصبحنا نشهد منذ وجودكم في خارج الوطن أن القومية العربية ابتدأت تأخذ منحى أقوى بكثير على مستوى العالم العربي ونجد أن العديد من المثقفين العرب باتوا يتبنون أفكار بشارة القومية؟
الحقيقة أن الفكرة القومية العربية فكرة مشرقية سابقة على الناصرية، بأكثر من نصف قرن. والناصرية ليست أيديولوجية، أو فكراً متماسكًا بقدر ما كانت مشروعًا أدخل مصر وثقلها في الإطار العربي، وتعامل مع المحيط العربي كبيئة إستراتيجية واحدة، وكان جزءًا من تيار في دول الجنوب يؤكد على الاستقلال من الهيمنة الاستعمارية، وعلى طريق تحديث وبناء الدول من خلال السيطرة على مقدراتها، ويعرض طريقا ثالثا بين القطبين في حينه.
وإذا كان لنا من إضافة فكرية فهي محاولة التمييز بين الأمة والقومية، بحيث يكون الانتماء القومي مركبا رئيسيا في تشكل الأمة التي يجب أن ترتكز على المواطنة حال وصولها إلى مرحلة السيادة، والتركيز على العلاقة بين سيادة الأمة والديمقراطية وحقوق المواطن. ولكننا بدأنا بإحياء الفكر القومي الديمقراطي أثناء وجودي في الداخل. ثمة أمور أصبحت الآن من المسلمات في الخطاب السياسي لجيل كامل من الشباب، كانت حين طرحناها بداية جديدة وغريبة، وحتى مستفزة للبعض.
الامتحان الحالي لأي أيديولوجية هو نجاحها أو سقوطها في امتحان الديمقراطية والموقف من الاستبداد، ولذلك أفرح لتمسك بعض القوميين واليساريين والإسلاميين بالديمقراطية بعد المراجعات التي أجريت في فكرهم وتجربتهم خلال العقود السابقة، وأحزن لسقوط البعض المريع في هذا الامتحان... إذ تبين أنهم تشدقوا بالديمقراطية وأنهم يخشونها أكثر من خشيتهم من الاستبداد، والأهم من ذلك انكشاف قلة حساسية البعض لحقوق الإنسان.
هل لكونك قوميًا عربيًا ترفض التدخل الإيراني في العراق وسوريا؟ 
الموقف الحالي من إيران ليس موقفًا عربيًا شوفينيًا، فقد وقفنا معها في الكثير من المفاصل الصعبة، ولا سيما ضد أي عدوان أميركي عليها، ومع حقها بقراراتها كدولة ذات سيادة؛ بل إنه يتعلق برفض منطق الهيمنة على المنطقة، واستغلال الضعف العربي لفرض السيطرة على مقدرات دولة مثل العراق وفرض الطائفية السياسية عليه. ما يحز في نفسي كعروبي ربما هو اعتبار إيران للفوارق المذهبية بين العرب فرصه لصنع شبكة ولاءات عبر تسيييس المذهب والطائفة. فهل تسمح إيران أن تقوم دول عربية بمد شبكة من الولاءات السياسية داخل إيران بحجة الانتماء المذهبي أو حتى القومي؟
والمؤسف أن إيران وهي دولة دينية يحكمها سلك الكهنوت، تظهر بمظهر المعادي للأصولية، وهي محكومة بأصولية دينية، وتستغل قضية فلسطين لفرض هيمنة سياسية واقتصادية لا علاقة لها بفلسطين، أو بأي منطق مقاوم لإسرائيل.
لماذا تحولت الثورات العربية كما لو أنها إرهابية؟
لم تتحول إلى إرهابية. في بعض الدولة مثل مصر، تحول النظام السابق نفسه إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي، والإرهاب ضد الثورة، وهذا ما نسميه بالثورة المضادة. وعلى تخوم الدولة تزداد قوة حركات عنيفة خارج منطق الدولة حين تضعف في زمن الثورات. ولكن لا علاقة لهذه الحركات بالثورة ذاتها. فقد كانت قائمة دائما في سيناء وغيرها منذ عقود. كما إن هشاشة الدولة عديمة المؤسسات كما في حالة ليبيا خلقت إمكانية تحول الثوار إلى ميليشيات مسلحة تشكل خطراً على كيان الدولة إذا لم تنجح في الانخراط في عملية بناء الدولة.
أما في سورية فقد نشأت الجماعات المسلحة، ومنها جماعات تكفيرية إرهابية، بعد أن أغرق النظام الثورة المدنية السلمية بالدماء. فقد قتل وسجن ونفى جيلاً كاملاً من الشباب الديمقراطي المطالب بالإصلاح والحرية والكرامة خلال عام ونصف أو أكثر من عمليات القتل والتنكيل المنقطع النظير. لا تصمد في الدنيا مظاهرات سلمية أمام جيوش تطلق النار. وفي دول أخرى يكفي حتى الغاز لتفريقها. والإمكانية الوحيدة لصمود ثورة مدنية بوسائل مدنية تكمن في تحييد الجيش. أما في حالة انخراط الجيش ضد الثورة فإما أن تهزم الثورة وتتفرق أو تحمل السلاح. 
رغم أن عزمي بشارة بات منهمكًا ومنغمسًا في قضايا العالم العربي والتأثير عليه وتطويره من خلال النخب في مختلف دولنا كذلك ولانشغاله بمركز الدراسات، الذي أقامه في قطر والذي يعتبر أحد أهم المراكز العلمية في العالم العربي، وإن لم يكن أهمها والذي يلاقي نجاحا منقطع النظير ليتخطى كونه فقط مركز دراسات، إلا أن الجماهير العربية في البلاد والساحة السياسية تفتقد شخصا بقيمة عزمي بشارة؟
الحقيقة اني أيضًا افتقد البلد، وافتقدكم جميعًا، العزاء أني ما زلت قادراً على العمل من أجل فلسطين، وأن ساحة العمل والتأثير قد اتسعت كثيراً.
أنا أتجه أكثر فأكثر لتخصيص وقتي للمشروع النهضوي العربي (بما فيه فلسطين) سواء لناحية الإنتاج الفكري أو بناء المؤسسات، هذا هو عملي. أما في السياسة فأخصص جل وقتي للشباب وللجيل القادم من صانعي التغيير في فلسطين وفي مجمل المنطقة العربية. هذه الأمور الثلاثة: الإنتاج الفكري، وبناء المؤسسات، والاهتمام الفكري والسياسي ببرنامج جيل الشباب للمستقبل هي برأيي الأمور الأهم التي يجب أن تشغلني فيما تبقى من العمر. وفلسطين هي الأرض التي أقف عليها دائما.
هل وصل عزمي بشارة إلى مكانة لم يعد بإمكانه الانغماس على سبيل المثال بالقضايا السياسية البرلمانية مثلاً، وأصبح ذا انشغال بقضايا العالم العربي المصيرية التي تنعكس على مجمل العالم العربي، لتؤثر في نفس ووجدان كل عربي سواء في العالم العربي أو في بقاع الأرض حول هويتنا والمجتمعات التي نصبو إليها في دولنا العربية؟ 
الحقيقة أن تأسيس مركز أبحاث بمستوى أكاديمي رفيع ليس بالمهمة السهلة أبداً، والدعم المادي لا يكفي لصنع مستوى أكاديمي وتنظيم ممأسس. ونحن الآن في خضم العمل على مشروعين لا يقلان حجمًا بل يزيدان، وهما: لمعجم التاريخي للغة العربية وهو مشروع لم تنجح في إطلاقِهِ لا مؤسسة، ولا دولة حتى الآن، ومشروع المعهد العالي للعلوم الاجتماعية والإنسانية. والحقيقة أن الأخوة في قطر لم يرحبوا فقط باستضافة المشاريع، بل إن الفريد في حالتهم أنهم لا يتدخلون على الإطلاق، ولا يقيدون الحرية البحثية والأكاديمية، مع أنهم يدعمونها بسخاء. وهذا أمر غير معهود عربيًا على الإطلاق.
أنا منشغل فعلاً في قضايا العالم العربي. وكنت منشغلاً فيها فكريًا وكتابةً حتى حين كنت في الداخل كما تذكرون. ولا علاقة لذلك بالعمل البرلماني. لقد أردت التوقف عن العمل البرلماني قبل خروجي بأكثر من عام، لأنه استنزفني حتى نفسيًا، وكنت أشعر أني قمت بدوري فيه وكفى، وصنعت الفرق الذي أردت عبر الخطاب السياسي الجديد، ونمط العمل الجديد، وأصبح العمل البرلماني في الدورة الأخيرة عبئًا لا أريد الاستمرار فيه. كنت أرى وجودي في الكنيست دائمًا تنازلاً لا بد منه لغرض العمل السياسي في ظروف عرب الداخل، وتسوية كبيرة أجريها مع نفسي.
الساحة الحزبية المحلية
لكن عزمي بشارة وعلى الرغم من ثقل المسؤولية وحجمها الملقاه على عاتقه إلا أن تأثيره لا يزال واضحًا على الساحة السياسية المحلية وعلى ما يجري في أروقة الكنيست،إلى أي مدى هذا التأثير؟ وهل تتدخل على سبيل المثال في قرارات حزب التجمع الذي أسسته وأصبح الرّاعي للفكر القومي العربي لدى عرب 48 في قراراته وهوية مرشحيه؟ 
آمل أن التأثير الفكري والسياسي ما زال قائمًا، فامتحان الأفكار في ديمومتها وانتشارها، وليس في ديمومة صاحبها. وأفرح كثيراً حين أسمع شبابًا من الداخل يرددون أموراً وكأنها مفروغ منها، اجتهدنا في وضعها، وكلفتنا في الماضي ثمنًا، خضنا صراعات لمجرد قولها. أما بالنسبة للتجمع فقد آمنت منذ البداية أن مهمتنا نهضوية تحديثية، وهذا يعني بناء المؤسسات، وعدم التعويل على الكاريزما الشخصية فحسب، وبرأيي تميزنا بذلك عن الكثير من الظواهر التي نشأت على الساحة، ولم تتجاوز حدودها كمشاريع فردية. وقد مر الحزب ومؤسسات أخرى أقمناها في الامتحان بنجاح كامل، وهو الآن أقوى مما كان أثناء وجودي في البلاد، وهذا يسعدني. (ألا تذكرون مقولة حزب الرجل الواحد عن التجمع؟!) ومع أني ما زلت أحظى بمكانة خاصة في التجمع، وحتى لدى الأجيال الشابة التي لا تعرفني عن قرب؛ إلا أنني بالطبع لا أتدخل في صنع القرار في التجمع. لا الوقت، ولا المسافة، ولا الاطلاع على التفاصيل تسمح بذلك. لقد شاركت في تأسيس حزب وكنت قائده، وما زلت مقتنعًا أنه لا غنى لمجتمعنا عن الحزب السياسي. ولكني الآن أقوم بمهام فكرية وسياسية غير حزبية بطبيعتها.
كيف تقيم الساحة السياسية اليوم حيث هنالك تراجع ملحوظ في دور وأداء أعضاء الكنيست العرب، هل هذا نتاج الوضع السياسي الراهن؟ أم أن هذا الضعف ناجم من أداء بعض أعضاء الكنيست في البلاد؟ 
اعفيني من تقييم أداء أعضاء الكنيست العرب. ولكن دعني أقول لك أن التحريض عليهم يختلف عن النقد. فالنقد مقبول وضروري، أما التحريض المثابر فله غاية سياسية هي إبعاد العرب في الداخل عن السياسة، حتى في القضايا المتعلقة بهم كمجموع، وإبقاؤهم أسرى قضايا محلية ذات طابع فئوي ضيق، وذلك لكي لا نتبلور كجماعة وطنية.
قضية رفع نسبة الحسم؟ كيف ستنعكس على الأحزاب العربية والجبهة مثلا؟ هل برأيك سيؤدي الأمر الى تشكيل وحدة عربية؟ أم أن المخطط يهدف إلى دمج الجبهة مع الأحزاب الإسرائيلية من خلال قائمة مشتركة لتصبح الجبهة المشتركة يهوديا وعربيا أقرب إلى الأحزاب اليهودية مثل "العمل" و"ميرتس"؟ أعطنا تقييمك للوضع من فضلك؟ 
لا شك أن رفع نسبة الحسم يؤثر على شكل إعداد القوائم البرلمانية. ولا أعتقد أن الجبهة يمكن أن تندمج مع أحزاب مثل ميرتس أو العمل. هذا غير وارد برأيي. ولكني لا أرغب بالدخول في تفاصيل انتخابية لا علاقة لي بها مباشرة. موقفي في البلاد كان قائمة عربية واحدة وذلك من منطلق عروبي وفلسطيني وحتى مواطني، ولكن هذا تعذر دائما، ولا اريد الآن أن أخوض في التفاصيل. ولذلك كان رأيي أنه يجب أن يكون التجمع جاهزا دائما لخوض الانتخابات وحده. قوته الآن ازدادت كثيرا برأيي، ولكن مع ذلك الظروف تغيرت ولا غنى عن التحالف.
 حملة ضد القوى الديمقراطية في المنطقة تقودها قوى الاستبداد البائد
هل تغضبك حملة القذف والتشهير والتخوين من منافسين حزبيين لك سابقاً مثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي؟ أم أن هذه أمور اعتدت عليها منذ اليوم الأول الذي خرجت فيها من صفوف هذا الحزب وتشكيلكم فيما بعد حزب التجمع وفرضكم منذ ذلك الحين وحتى أيامنا هذه للخطاب السياسي القومي الديمقراطي على الساحة المحلية؟
القذف والتشهير اليوم مرتبط بأنظمة تصارع على بقائها، وإذا كانت تقتل الآلاف من أجل ذلك، فلا غرابة أن تشهّر بالمثقفين الديمقراطيين التقدميين وتحملهم مسؤولية مطالب الناس العادلة. ثمة حملة ضد القوى الديمقراطية في المنطقة تقودها قوى الاستبداد البائدة والرجعية، سواء أكانت جمهورية أم ملكية. وثمة من لا يتورع عن اللقاء معهم ما دام المستهدف من يعتبرونه خصما سياسيا. المسألة هي أن ضعف الحجة السياسية والفكرية وهشاشة الموقف الأخلاقي يقود إلى القذف والتشهير، وهذا نوع من قمع الرأي المختلف، ولا يوصل أصحابه إلى أي مكان، بل كان دائمًا يزيدنا قوة وامتداداً في الشارع. أنا لست خصمًا حزبيًا أو سياسيًا لأحد في الداخل، ولا أهاجم أحداً، وحتى حين كنت قائداً حزبيًا لم أهاجم في حياتي أحداً بشكل شخصي.
أما بالنسبة للتخوين، فقد جرت العادة أن تخوِّن الحركة الوطنية الحزب الشيوعي، وليس العكس، ولكنها أقلعت عن ذلك. أما الحزب الذي اعتاد أن يكون وحده في الساحة فقد صار يخوّن كل من تجرأ على أن ينظم نفسه دون اسثتناء، ولا أذكر أحداً خرج من هذا الحزب لأنه لم يعد مقتنعًا بخطه إلا وخوّنه الحزب، كما في حكم المرتد في الحركات الدينية. ولكن الكلام لا رباط عليه ويمكن قول أي شيء، وهذا ليس مهمًا، إنه كالزبد يذهب جفاء، ويبقى في الأرض ما ينفع الناس.
أنا على كل حال لستُ خصمًا للحزب الشيوعي ولا الجبهة ولا الحركة الإسلامية، وبالتأكيد لست منافسًا لأحد، ولا أريد أن أناقش أيًا منها من هنا، ولا أفكر في هذا الموضوع، وأسمع عنه حين ينقل إلي الكلام واستغرب، لماذا ينشغل بي البعض، وأنا لا أفكر حتى بهذه المواضيع، ولماذا يغضب البعض ويتعب أعصابَه في حين أنني فعلاً منشغل بأمور أهم من القذف والتشهير الذي يقوم به.
ما رأيك في انتخابات الناصرة وما نجم عنها؟ 
ربما أخيب ظن الكثيرين، ولكني لم أتدخل في هذه الانتخابات. فعلاً لا علاقة لي بالأمر. فالبلديات شأن محلي خالص. وخلافًا لما يعتقد بعض الأخوة، فإن موضوع انتخابات الناصرة لم يشغل الناس في دول عربية. سمعت أن البعض تحدث عن تدخل قطري وغيره، وابتسمت، فأنا لا أعتقد أن أحداً في قطر سمع بهذه الانتخابات. وأنا لا أدري كيف يكررون كلامًا لا أساس له ولا مصدر ولا دليل، لا أدري. أقول هذا متمنيًا كل خير لأهلي وجيراني وأصدقائي في الناصرة، الخلاف بالرأي وحتى بين القطاعات الاجتماعية حول شكل إدارة البلد، ووزن القطاعات الاجتماعية فيها أمر صحي، ولكن مهلاً، رويداً رويداً، ومن دون مبالغة. هذا ليس صراعًا على نظام حكم. والمهم أيضًا أن لا يقود إلى شروخ اجتماعية. ويقيني أن هذا لن يحصل إن شاء الله.
 د.عزمي بشارة عدا عن كونه تاركا بصمة هامة وهي كيفية تعريفنا، إلا أن مصطلح دولة كل مواطنيها يثبت نفسه يومًا بعد يوم إنه الأنجع لحل الصراع الراهن وفي ظل فشل مبادرة كيري؟ هل يمكن تعديل فكرة دولة كل مواطنيها مثلاً لكي يتم تبنيها أيضًا بصورة أشمل في المجتمع الفلسطيني والاسرائيلي؟ 
ربما، لا أدري. لقد أعدت الفكرة كبرنامج سياسي وفكري لعرب الداخل مع الحفاظ على الهوية القومية والوطنية، وسوف تحتاج الفكرة إلى الكثير من التعديلات إذا وسعت لتشمل كل الفلسطينيين والقضية الوطنية... سبق أن أجبت على سؤالك، حين تكلمت عن ضروة الحسم بين خيارين فلسطينيين يترتب عليهما تغيير بنيوي في السياسة والإستراتجية.
المنفى في حالتي ليس خياراً بل ضرورة!
هل هنالك إمكانية لعودة عزمي بشارة إلى البلاد؟ أم أن هذا الأمر صعب المنال؟ أم أن بشارة يفضل العمق العربي على الحصار الإسرائيلي الذي نشهده في البلاد؟
ليست مسألة تفضيل، وإن كنت أفضل العمل البحثي على النيابة. لا توجد إمكانية حقيقية للعودة. فنحن نطالب بالإفراج عن السجناء، هل تريدون سجينًا إضافيًا لتطالبوا بإطلاق سراحه؟ في الظرف القضائي والسياسي والأمني الإسرائيلي الراهن، لا أعتقد أن العودة ممكنة حاليًا. أحيانًا يبدو لي أنه بالنسبة للبعض السجن هو هدف لمن هم في الخارج، وبعد السجن يصبح إطلاق السراح هو الهدف على كل حال. والمنفى في حالتي ليس خياراً بل ضرورة! وقد اختارها كتاب وقادة سياسيون كثيرون قبلي حتى حين لم تكن ضرورة، وبعضهم لم يكن حتى ملاحقًا.
البعض يدعي أن عزمي بشارة كان عليه أن يبقى في البلاد ويحاكم ويزج في السجن حتى على تهمة لم يقترفها، وهناك من يرفض أن يقبع د. عزمي في السجون الإسرائيلية ويؤكد على استمرارية النضال وعدم الخضوع للجلاد الإسرائيلي وإيصال رسالة بأن ليس مصير من يقاوم الاحتلال السجن بل العكس فكل السبل في هذا النضال متاحة؟
أعتقد أن هذا النقاش سياسي حزبي، ولا علاقة له بالموضوع، ولو بقيت وسجنت فلن يرضى هؤلاء. وليس هدفي في الحياة إرضاؤهم، بل فعل ما هو صحيح وخدمة القيم التي أؤمن بها. وأنا والحمد لله في قمة عطائي ونشاطي. عملي الفكري والسياسي، ومجاله في الوطن العربي، أوسع قليلا من أفق من النكايات الشخصية والحزبية. حبذا لو يترفع الناس عن هذا.
كيف تقيم انحصار الحركة الإسلامية على سبيل المثال في رفع الوعي الجماهيري لمؤيديها وخوض نضال رئيسي واحد وهو الأقصى لا غير، هل هذا الأمر يؤدي إلى انحصار قضيتنا في الداخل الفلسطيني ببعد واحد لا غير؟ دون الخوض في قضايانا المصيرية والحقيقية؟
لا أعتقد أن عملها محصورا بذلك. ولكن على كل حال هذه ليست نقطة الخلاف مع الحركة الإسلامية. ولست أنا من يفسر لها سلوكها وبرنامجها السياسي. ثمة خلافات في الرأي أخرى اجتماعية وسياسية لا بد أن تخاض، ولكني لا أريد الخوض في نقاشات مع أي حزب عربي في الداخل من المنفى.
هل تشتاق إلى البلاد وتتمنى لو كنت متواجدا أثناء وقوع حدث معين لكنت أدرته بصورة مختلفة؟
دعك من هذا، لكل زمان دولة ورجال. أعرف أن كثيرين يسألون كيف كنت سأتصرف في هذه الحالة أو تلك. ولكن البركة في الموجودين، فهم واعون سياسيا، لا يقصّرون في شيء عمليا، ويبذلون قصارى جهدهم، وأنا فخور جدا بهم.
 ونعم، أشتاق إلى البلاد. وهي تسر لي كل مساء بعد الإرهاق والتعب أنها تبادلني الشوق. كل يوم أسمع همس الجليل والمثلث والنقب والساحل والتي كنت أجوبها كلها، إن البلاد اشتاقت لأهلها.
الحراك الشبابي
 كيف ترى بعض الأصوات التي تنادي بتجنيد العرب بشكل عام والحملة الأخيرة التي تنادي بتجنيد العرب المسيحيين بشكل خاص؟
هذه حملة مغرضة لا بد من التصدي لها. وهي موجهة ضد عروبة المسيحيين، ولصناعة هويات جماعية جديدة، وتفتيتنا كجماعة وطنية. وبرأيي لا يمكن فصلها عن تعبئة "الأقليات" عموما في المنطقة. وكان رأيي دائما أن هذه التعبئة تقود بالضرورة إلى إسرائيل. يجب التصدي لها بكل قوة بهدف إفشالها فعلا، وليس بهدف تسجيل مواقف فقط. وإفشالها ممكن فعلا.
الحراك الشبابي هو مولود من داخل بطن التجمع، هذا الحراك خاض في بداية العام مظاهرة حيفا الشهيرة ؟ ما الذي يوجهه عزمي بشارة لهؤلاء الشباب؟
أولئك إخواني فجئني بمثلهم... اذاً أردت أقول أولئك بناتي وأبنائي فجئني بمثلهم. هؤلاء الشباب هم خير ما أنتجته الحركة الوطنية. وهم أمل عرب الداخل، والشعب الفلسطيني بشكل عام. أتمنى لهم القوة والشجاعة والنجاح والمثابرة، والتواضع اللازم للنقد الذاتي والتعلم.
لقد فقدنا هذا العام شخصية مؤثرة بكل معنى الكلمة على الثقافة العربية وهي شقيقتكم الدكتورة روضة عطاالله رحمها الله، حدثنا عن هذا الفقد، وعن شخص الدكتورة روضة، وكونكم وبسبب الاحتلال لم تستطيعوا حضور مراسم تشييع جثمانها؟ 
فجعت بفقدان شقيقتي روضة من دون أن أتمكن من حضور تشييع جثمانها. وكنت ألتقيها في خلال مرضها في عمان والدوحة... وكانت مناسبة لنراجع فيها كل الذكريات وحياتنا. لا يمكنني أن أصف لك صعوبة أن تودع حبيبا وهو حي يمشي أمامك إلى المطار، وأنت تعرف أنك لن تراه ثانية. عزائي وعزاؤها هو جيل الشباب في جمعية الثقافة العربية ومن حولها.
 أين هو البيت بالنسبة لعزمي بشارة؟
حدثنا عن نشأتكم والقيم التي تربيتم عليها من قبل والديكم؟ وكيفية تأثيرها على بلورة شخصيتكم؟
تربينا في كنف أسرة عربية متوسطة وعادية. ولكن ربما الأمر الأبرز أن التربية كانت قيمية، ووطنية، وفيها الكثير من العاطفة والانحياز للمظلومين في كل مكان، وأنه لم تكن للمادة أي قيمة في العلاقات الأسرية أو مع الآخرين.
دور العائلة في حياة عزمي بشارة؟
عائلتي تحملتني كثيرا في الداخل دون شكوى أو تذمّر، تحملت الانشغال والغياب والتوتر، وكان ذلك عن قناعة بقيمة ما أقوم به. ولكني لم أهمل العائلة، ولا أبنائي وجد وعمر أبدا، ولا اريدهما أن يدفعا ثمن خياراتي. أحاول قدر الإمكان قضاء زمن نوعي حقيقي معهما، رغم الانشغال في كل هذه المشاريع.
أبو عمر، لماذا اخترت إطلاق اسم عمر على ابنكم؟ 
هو اسم عربي جميل أليس كذلك؟ وأنا رجل عربي، وابني كما يبدو يكبر ليكون كذلك.
حدثنا عن أولادك، وهل يفتقدونك هم وعائلتك بسبب انشغالكم؟
نحافظ أن يزورا البلد مع والدتهم مرة في العام على الأقل، ويتواصلون مع الناس في فلسطين، ويحبون القدس والناصرة وحيفا وترشيحا. ولم تزعجهم ساعات الانتظار الطويلة على المعبر الحدودي، فقد كانوا يتعرضون للانتظار ساعات طويلة.
أين هو البيت بالنسبة لعزمي بشارة الناصرة، حيفا، بيت حنينا أو أي مكان آخر؟ 
فلسطين هي الوطن. المدينة التي أحب أن أسكن فيها هي حيفا. والقرية ترشيحا والجليل الأعلى عموما.
هل بالفعل كنت تفضل كتابة الروايات مثل تجربتكم حب في منطقة الظل- والحاجز- عدا عن كونكم عكفتم على تأليف عشرات الكتب الهامة؟ هل جانب الروائي الرومانسي موجود في شخصية بشارة؟ 
أفضل نمط الكتابة الأدبي والفلسفي، والجمع بينهما أحيانا. ولكن مشاريعي الفكرية والانشغال في بناء المؤسسات، والانشغال السياسي، تبعدني عن ذلك لمدة سنوات أحيانا. نعم أعترف البعد العاطفي موجود وأحاول أن ألجم الرومانسية حين تهدد بالظهور.
لو لم تكن سياسيًا أو مفكرًا عربيًا ما هو العمل الذي كنت تفضل الخوض فيه؟
كنت أفضل التفرغ للكتابة فقط. وخارج هذا السياق كنت أتمنى لو أتيح لي أن أتعلم الموسيقى.
ماذا توجه في نهاية هذا اللقاء للآباء والأبناء في مجتمعنا، وما هي رسالتكم التربوية والروحية لهم؟
القيم الوطنية مصلحة مجتمعية، وليست موقفا أخلاقيا فحسب. المجتمع الوطني المنظم هو مجتمع تنخفض فيه معدلات العنف والجريمة.
دعوا أبناءكم يدرسون ما يحبون، ويبدعون في ذلك، وأقصر الطرق إلى النجاح حرية الاختيار وأن يحب الإنسان ما يقوم به.
لا تجعلوا أبناءكم يدوسون على ضمائرهم وقيمهم لأن هذا يبدو لكم في مصلحتهم المباشرة، فليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مصلحتهم.

No comments: